تمخض عن تطور علم الاقتصاد، بروز نظريات عديدة تحاول شرح وتفسير العلاقات الأساسية بين المتغيرات الاقتصادية، ومن ثم التنبؤ بأثر التغير في بعض المتغيرات، على بعضها الآخر. غير أن كون هذه النظريات تتصف بطابع المعرفة الوصفية (الكيفية)، انجرَّ عنه تعذُّر استخدامها في التنبؤ والتحليل واتخاذ القرارات. فالنظرية لا تعدوا كونها مجرد استنتاجات منطقية، يتعذّر التحديد المُسبق لمدى مطابقتها للواقع الذي تزعم تفسيره. وذلك في ظل عدم إمكانية تقديم قياس مباشر -ينطلق من واقع البيانات المُشاهدَة- للصياغات التي تقدمها. من هذا المنطلق، نشأت الحاجة إلى إدخال بعض التعديلات على هذه الصياغات، لإعطائها طابعا احتماليًّا قابلا للتقدير والاختبار. ضمن هذا الإطار، يُعدُّ العمل الاقتصادي التطبيقي بناءٌ متكامل، يقوم على ركيزتين أساسيتين. يتعلق الأمر بكل من النظرية الاقتصادية، والإحصاء الرياضي. وفي ظل اتساع مجالات البحث الاقتصادي التطبيقي، ازداد التداخل بين النظرية الاقتصادية، والإحصاء الرياضي، وتزايد معه الشعور بالحاجة إلى المزج بينهما في إطار موحد، أخذ في التبلور شيئا فشيئا، حتى فرض وجوده المستقل في صورة فرع جديد من فروع العلوم الاجتماعية، يُعرف اليوم بعلم "الاقتصاد القياسي- Econometrics".

ساهم ظهور علم الاقتصاد القياسي، والنمذجة الاقتصادية القياسية، مع مطلع ثلاثينات القرن الماضي (على يد لجنة "Cowles")، في تسهيل عملية تكميم العلاقات الاقتصادية، وتقريب مناهج البحث في العلوم الاقتصادية (وغيرها من فروع العلوم الاجتماعية)، من مناهج البحث في العلوم الدقيقة. ذلك بعد أن أنتجت أزمة الكساد العظيم (1929-1933)، مناخًا وإطارًا جديدا للتحليل، تولَّد عنه التجديد، والتطوير في مناهج البحث، وأدوات التحليل. كان ذلك، من خلال العمل المتميِّز الذي قام به مُنَظِّرِي الأطروحات الكينزية، "Hicks"، و"Modigliani"، من جهة؛ وكذلك الدور الذي لعبه "Klien"، كمختص في الاقتصاد القياسي، من جهة أخرى. أُطلِق على هذا النوع من النَّمذجة -في الأدبيات الاقتصادية- اسم "النَّمذجة الكينزية الهيكلية".

التفسير الحرفي للاقتصاد القياسي هو "القياس الاقتصادي". يمكن تعريف الاقتصاد القياسي -باختصار- على أنه دراسة طرق قياس العلاقات الاقتصادية، باستخدام البيانات الإحصائية. لكن بالرغم من أن القياس جزء مهم من الاقتصاد القياسي، إلا أن نطاق هذا الأخير أوسع بكثير. فالاقتصاد القياسي، هو التحليل الكمي للظواهر الاقتصادية الفعلية، بناءً على التطور المتزامن للنظرية والملاحظة، والمرتبط بأساليب الاستدلال المناسبة. يتضمن الاقتصاد القياسي، كل التقنيات الإحصائية والرياضة التي تُستعمل في تحليل المعطيات الاقتصادية، وقياس التفاعلات التي تحدث بين المتغيرات الاقتصادية، بهدف تشخيص العلاقات الاقتصادية واختبار مدى توافقها مع الواقع. إذ تهدف منهجية البحث الاقتصادي القياسي -بشكل أساسي- إلى تجسيد الاقتران بين النظرية الاقتصادية، والقياسات الفعلية، باستخدام نظريات وتقنيات الاستدلال الإحصائي.

يُدرَّس الاقتصاد القياسي ضمن جميع الأطوار والمستويات، ويُعتبر جزءًا من تكوين أي اقتصادي. مع ذلك تجدر الإشارة إلى أن الاقتباسات أعلاه -بشأن مفهوم الاقتصاد القياسي- مرتبطة فقط بفرع العلوم الاقتصادية. غير أن استخدامات الاقتصاد القياسي قد تعددت، لتشمل فروع أخرى من العلوم الاجتماعية، على غرار العلوم السياسة، علم النفس، وعلم الاجتماع؛ إضافة إلى العلوم الدقيقة.